
العمل شرف ومسؤولية رسائل مشفّرة : دعوة إلى العمل الجاد ومحاربة الفساد
رسالة إلى كل من يحمل أمانة في موقعه
المقدمة
في زمنٍ تتسارع فيه الأحداث وتتزايد فيه التحديات، تصبح قيمة العمل الجادّ ليست مجرد وسيلةٍ للعيش، بل فلسفةً للحياة وواجبًا وطنيًا وأخلاقيًا. فالأوطان لا تُبنى بالوعود ولا بالخطابات، وإنما بسواعد أبنائها الذين يؤمنون بأن الجهد والإخلاص هما الطريق الوحيد نحو التقدّم والازدهار.
وفي المقابل، يقف الفساد كحاجزٍ أسود يعترض مسيرة التنمية، يضعف الثقة، ويقتل روح المبادرة. ومن هنا، تأتي هذه الكلمات لتكون دعوةً صادقة لكل مسؤول ومدير وعامل، بأن يعيدوا النظر في مفهوم الأمانة، وأن يجعلوا العمل عبادةً لا عادة، ومسؤوليةً لا وسيلةً لتحقيق المصالح.
العمل عبادة ومسؤولية قبل أن يكون وظيفة
العمل هو المرآة التي تعكس شخصية الإنسان ودرجة إخلاصه. الموظف الذي يؤدي مهامه بصدق، لا ينتظر الثناء، لأنه يدرك أن ما يقوم به هو واجب تجاه مجتمعه ووطنه.
إنّ ما تحتاجه مؤسساتنا اليوم ليس المزيد من التعليمات أو القوانين، بل الحاجة إلى ضميرٍ حيّ يشعر بثقل المسؤولية ويؤمن بأن الإتقان قيمة لا يمكن التنازل عنها.
العمل الجاد لا يعني فقط الانضباط في الحضور أو الالتزام بالمواعيد، بل يتجاوز ذلك إلى الإبداع في الأداء، والحرص على المصلحة العامة، والوفاء للوظيفة باعتبارها تكليفًا وواجبًا وطنيًا.
حين يتحول العمل إلى رسالة، تزدهر المؤسسات وتُبنى الأوطان على أسسٍ من النزاهة والعدالة.
بين المسؤولية والمصلحة: اختبار الضمائر
المناصب لا ترفع قيم الأشخاص، بل تكشفها. والمسؤولية الحقيقية لا تُقاس بعدد الأوامر التي تُصدر، بل بمدى العدل الذي يتحقق تحتها.
إنّ المدير الذي يرى في موقعه وسيلةً لخدمة الآخرين لا للسيطرة عليهم، هو من يترك بصمة لا تُمحى في ذاكرة المؤسسة.
أما من جعل المنصب مطيّةً للمصالح الشخصية، فمهما طال بقاؤه، سيزول أثره بزوال الكرسي.
إلى كل مسؤولٍ في موقع القرار، لا تنسوا أن السلطة أمانة، وأن الأمانة تُسألون عنها أمام الله والتاريخ والضمير.
كونوا قدوة في السلوك قبل أن تكونوا أصحاب أوامر. فالعدل في التسيير أعظم من ألف شعار، والقدوة الحسنة تغني عن ألف محاضرة في الأخلاق.
الفساد: العدو الصامت لكل نهضة
الفساد لا يُقاس فقط بالأموال المنهوبة أو العقود المشبوهة، بل يبدأ من أبسط مظاهره: التهاون في أداء الواجب، التساهل مع المتقاعسين، والتغاضي عن الأخطاء بدافع المجاملة أو الخوف.
حين يتسلل الفساد إلى المؤسسات، يتحول العمل إلى روتين، والمصلحة العامة إلى شعارٍ بلا معنى، ويصبح المخلص غريبًا في بيئةٍ لا تقدر الجهد.
السكوت عن الفساد هو شكل من أشكاله، والتهاون معه خيانة صامتة.
من هنا، فإنّ الإصلاح لا يتحقق بالقوانين وحدها، بل بثقافةٍ جديدة تجعل من النزاهة شرفًا، ومن الكفاءة معيارًا، ومن المصلحة العامة هدفًا ساميًا لا يُساوَم عليه.
المؤسسة الناجحة تُبنى على روح الفريق لا على سلطة الفرد
المؤسسة الناجحة هي التي تجعل كل موظف يشعر بأنه شريك في النجاح لا مجرد رقم في هيكل إداري.
حين يتحدث المدير بلغة الاحترام، ويعامل مرؤوسيه بعدلٍ وإنصاف، تزدهر بيئة العمل ويولد الإبداع.
أما حين يسود الخوف والتفرقة، تذبل روح المؤسسة ويغيب الولاء.
إلى كل مديرٍ أو مسؤول، تذكّر أن القيادة ليست في إصدار الأوامر، بل في القدرة على الإلهام، وفي خلق بيئة عملٍ تحترم الكفاءة وتشجع المبادرة.
كن قائدًا لا متسلطًا، وقدوةً لا مراقبًا.
فأعظم القادة من يجعل فريقه يعمل بدافع القناعة لا بدافع الخوف.
الإصلاح يبدأ من الذات
قبل أن نطالب بتغيير النظام أو محاربة الفساد في غيرنا، علينا أن نبدأ بأنفسنا.
فالموظف الذي يتهاون في وقته، والمعلم الذي لا يُتقن درسه، والإداري الذي يبرّر الأخطاء، كلّهم يسهمون – من حيث لا يشعرون – في إضعاف منظومة القيم التي يقوم عليها أي مجتمعٍ نزيه.
النهضة الحقيقية تبدأ من لحظة الصدق مع الذات.
حين يُصلح كلّ فردٍ نفسه، يُصلح المجتمع تلقائيًا.
فالإخلاص في العمل لا يحتاج إلى مراقب، بل إلى ضميرٍ يراقب صاحبه قبل أن يحاسبه غيره.
الوطن أمانة في أعناقنا جميعًا
الوطن ليس أرضًا نسكنها فحسب، بل هو روح تسكننا ومسؤولية نحملها في كل لحظة.
من يعمل بجدّ يحمي الوطن، ومن يفسد أو يصمت على الفساد يخونه بصمتٍ مؤلم.
لا قيمة لكل الشعارات الوطنية إذا لم تُترجم إلى عملٍ صادق، ولا معنى لأي إصلاحٍ اقتصادي أو سياسي إن لم يُبنَ على أساسٍ أخلاقي متين.
فلنجعل من مواقعنا، مهما كانت بسيطة، منابر لخدمة الوطن، لا مساحاتٍ لتحقيق المصالح.
ولنجعل من الأمانة ميثاقًا يربط بيننا وبين خالقنا قبل أن تربطنا بالقانون.
فمن خدم وطنه بإخلاص، ترك أثرًا خالدًا لا يزول، ومن خان الأمانة، محاه التاريخ مهما حاول التجمّل.
الخاتمة
إنّ ما تحتاجه الأمة اليوم ليس كثرة الخطب ولا تعدد الشعارات، بل رجال ونساء يؤمنون بأنّ العمل عبادة وأنّ الفساد خيانة.
إنها دعوة لكل من يتولى مسؤولية، صغيرة كانت أو كبيرة، إلى أن يجعل ضميره بوصلة قراراته، وأن يتذكر أن الوظيفة ليست امتيازًا بل التزامًا.
فلتكن أعمالنا هي رسائلنا، ولتكن نزاهتنا هي أقوى خطاب نوجهه إلى الوطن.
.فمن يعمل بإخلاص لا يحتاج إلى لافتة تُمجّده، ومن يزرع الصدق في موقعه، يحصد احترام التاريخ وإن طال الزمن
من إعداد : يعيش تمام محمد خميستي إنتقاء من _
الكاتب | من كتاب | |
عبد الرحمن محمد العيسوي | سيكولوجية الفساد والأخلاق والشفافية | |
محمد الغزالي | الآداب: الفساد في المجتمعات العربية والإسلامية |